نشأة يثرب وتطوّرها حتى مجيء الإسلام
(الحلقة 1/10)
قال داودُ بن مسكين الأنصاري:
«كانت يثرب في الجاهلية تُدعى "غلبت" ،
غلبتِ اليهود عليها العمالقة،
وغلبتِ الأوس والخزرجُ عليها اليهودَ،
وغلبَ المهاجرون عليها الأوس والخزرجَ،
وغلبَ الأعاجِمُ عليها المهاجرينَ ... »
أبو عبيد البكري: المسالك والممالك
هي إحدى مدن الحجاز الكبيرة، بل، ويذكُرها التاريخ باعتبارِها إحدى أهمِّ مدن بلادِ العرب بلاَ جدالٍ، وقد زادتْ أهمّيتُها بعدَ أن أصبحت مهجراً للرسول صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ، ثمَّ بعدما صارت مرقداً لجثمانِه الشريف وعاصمةً أولى للدولة الإسلامية.
وهيَ تقوم في واحة خصيبةِ التربة تبعد عن مكّةَ بمسيرةِ تسعة أيام[1] أي ما يُعادِلُ 500 كيلومتر تقريباً[2]. وهي غزيرة المياه، وتفع بينَ لابتيْن بركانيتيْن تُعرَفان بالحرّتيْن: حرَّةُ واقمٍ في الشرق، وحرّة الوبر في الغرب، إضافةً إلى حرّة القِبلة وحرّة الشام، اللتين غَفَل الجغرافيون عن ذكرِهما لاتّصالِهما بالحرّتيْن المذكورتين، كما نبّهَ على ذلِكَ السّمهودي[3]. وتحيط بيثرب جبال مرتفعة هي جبل أُحُد وجبل ثور في الشمال، وجبل عير في الجنوب. أمّا سطحها فهو عبارة عن سهل مرتفع ينحدر نحوَ الشمال مُتفقاً في ذلِكَ مع الانحدار العام للهضبة الوسطى من الجزيرة العربية[4]. وهي غزيرة المياه، كثيرة العيون والآبار والبرك والحياض، الّتي تقومُ حولَها البساتين والحدائق والمتنزّهاتُ، والتي كانت «مقيلاً للأعيان ومنتزهاً لمنْ نأتْ بهم الأوطان»[5] حسب وصفِ أحد المؤرخين.
وإذا كان مناخ مكة وطبيعتها قد اتّسما بالقساوة الشديدة والجفاف المفرطِ حتّى لقد اعتبرها البعض «مدينةً غريبةَ الأطوارِ» ومدينة «من أشدِّ مدن العالم إزعاجاً لراحةِ الإنسانِ»[6] ، فإنَّ هذهِ الطبيعة الصحراوية نفسها قد أغدقتْ على يثرب بكثيرٍ ممّا حرمتْ منه مكة ممّا جعلَها تبدو «مدينةً مليحةً ظاهرةَ الشّراقة والرّونقِ، موضوعة في مستوى منَ الأرض على وادٍ به غابةٌ عظيمة من النّخل»[7]. كما زادت الوديان الّتي تحفُّها من جهاتِها الجنوبة والشمالية والغربية من جمالِ طبيعتِها واعتدال هوائها، وخاصّةً وادي العقيق، الّذي كانَ مُتنزّهَ أهلِها ، والذي اشتهرَ بجمَّاواتِه الثّلاثِ[8] وبعرصاتِه الجميلة[9]، فكانَ لذلك كلّهِ وقعٌ كبيرٌ في نفوس الشعراء والجغرافيين والمؤرخين وغيرهم ممّن تطرّقوا إلى وصفِ معالم هذهِ المدينة حتّى أجمعوا على اعتبارِها «جنّةً من جنّاتِ الدنيا»[10]، ولو شئنا وصفَها بمزيدٍ من التفاصيل لامتدَّ بنا الحديثُ إلى أبعدَ ممّا نبغِي، ولكن نكتفي بإحالةِ من يهمُّه التوسّع في هذَا الباب على السّمهودي[11]، الّذي استقصى أحوالَها ، وجمعَ أوصافها وأخبارَها في سفرٍ مطوّلٍ ثمين، هو جدير بأن يُرجع إليه للاستفادة من علمِه ولالتقاطِ دُرَرِه. (يتبع)
-------------------------------------------------
الهوامش:
[1] يستفادُ من كتب السيرة النبوية أن المدّة الّتي قضاها الرسول صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ أثناء هجرته من مكة إلى المدينة تراوحتْ ما بين ثمانية وإحدى عشر يوماً. (انظر زاد المعاد لابن الجوزية : ج1 ص25، طبعة المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت، بدون تاريخ ؛ وانظر: محمد حسين هيكل، في منزل الوحي، مكتبة النهضة المصرية، ط.4، القاهرة، 1967، ص 599).
[2]Bergé (M.), Les Arabes: Histoire et Civilisation des Arabes et du Monde Musulman des Origines à la Chute du Royaume de Grenade, éd. EDIS, Paris, 1983, p. 46.
[3] السمهودي (نور الدين علي بن أحمد) ، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، بيروت، الطبعة الأولى، ج1 ص91.
[4] عن وصف يثرب وطبيعتها ، انظر: السمهودي : وفاء الوفا ، ج1 ص ص 67-96 ؛ العبدري (أبو عبد الله محمد بن أحمد)، الرحلة المغربية، تحقيق محمد الفاسي، الرباط، 1968، ص 203 فما بعدها.
[5] محمد كبريت الحسني، الجواهر الثمينة في محاسن المدينة، مخطوط مودع بخزانة تطوان بالمغرب، تحت رقم 324، ص ص: 186-187.
[6]Dermenghem (E.) , Vies des Saints Musulmans, Editions d'Aujourd'hui, Paris, 1981, p. 80.
[7] العبدري، الرحلة المغربية، ص 203.
[8] الجمَّاءُ مرتفعٌ صخريٌّ بارزٌ تسيلُ منه مياه الأمطار في منظرٍ بهيج.
[9] البكري (أبو عبيد الله عبد الله بن عبد العزيز)، معجم ما استعجم، تحقيق مصطفى السقا، بيروت، 1983، الطبعة الثالثة، ج4 ص ص 1331-1332 ؛ شوقي ضيف، الشعر والغناء في المدينة ومكة، دار المعارف، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1976، ص 10.
[10] نعتَ امرؤ القيس يثربَ بهذا النعتِ في إحدى قصائده إذْ قالَ (انظر ديوانه: طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1983، ص30):
عَلَونَ بِأَنطاكِيَّةٍ فَوقَ عَقمَةٍ *** كَجِرمَةِ نَخلٍ أَو كَجَنَّةِ يَثرِبِ
[11] وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، وهو في أربعة أجزاء، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1981.
__________________
لاَ تََثِقََنَّ بما يُلْقََى إليْكَ، وَتَأمّلِ الأخبارَ
واعْرِِضِْها على القوانين الصَّحِيحَةِ
يَقَعْ لكَ تَمْحِيصُها بِأحْسَنِ وَجْهٍ
[مِنْ مقدّمَةِ ابنِ خَلْدُون]