اشتهرت حمص بتلك الفترة بعبادة الشمس وهيكلها الفاخر الذي فيه الحجر الأسود الهرمي الشكل وكان يُشتَرَط على كهنة هذا المعبد أن يكونوا من أعيان البلد ومن أشهــر أفراد الأُسَر، وكان باسيانوس Basianus أو باسيان كاهن المعبد ذو أخلاق وثقافة عالية وآداب سامية وهذا ما هيَّأ لعائلته تبؤَ مناصب رفيعة في الدولة الرومانية .
وُلِدَت إبنته جوليا دومنا Julia domna حوالي سنة 166 م وكانت على جانب كبير من الذكاء والجمال والثقافة لاسيما في العلوم الطبيعية والفلكية وتتكلّم الآرامية. وكذلك شقيقتها جوليا ميسـا Julia maesa وإبنتيها جوليا سوميا Julia somia وجوليا ماميا Julia mamia كنَّ أيضاًعلى قدْر كبير من الثقافة والعلْم والثروة الكبيرة . وذكرَ أحد المؤرّخين أن بابنيانوس Papinianus النابغة في فقه الحقوق هو إبن باسيانوس وآخرون ذكروا إنه قريبهم . وحدث أن أحد الأشخاص ويُدعى يوليوس إسكندر كان يترأس عصابة في منطقة حمص عاثت في البلاد فساداً لدرجة أقلقت السكّان وخشيَ الإمبراطور كومود (180ـ192 ) إبن أوُريليوس شرَّها فأرسل قائداً عسكرياً ماهراً لضرب هذه العصابة ، هو سبتيموس سيفيروس الذي توجّه إلى المنطقة التى اعتصمت بها العصابة وطوَّقها وقضى عليها عام 179 م . وأثناء وجوده في حمص وقع نظره على جوليا دومنا فسحره جمالها وشعرَ بميل عظيم إليها وتوسَّم لنفسه مستقبلاً عظيماً إذا تزوّجها ، فطلبها من أبيها الذي لم يُمانع عن تلبية طلبـــه.ويكبرها بعشرين عاماً ، وأصبحت زوجته ورُزِقا من هذا الزواج عدة بنين : الأكبر باسيان وسُمّي فيما بعد كاراكلاّ Caracalla الذي وُلِدَ في ليون بفرنسا سنة 188م والأصغر جيتا Jeta
فكيف هؤلاء وصلوا إلى حكم روما ؟
1 ـ الإمبراطور سبتيموس سيفيروس Septimus severus
من193 وحتى 211 م
وُلِدَ بليبيا في بلدة لبدة بتاريخ 11نيسان سنة 146 م من أصل فينيقي أفريقي أو مــن أفاميا (قلعة المضيق ) وكان يتكلّم الفينيقية درسَ الفقه في روما ونبغ في القانون وتولّى عدة مناصب حكومية في عهد الإمبراطور أوريليوس وإبنه كومود وكان قائداً عسكرياً ماهراً أحبّه الجنــد لإنه كان شديد العطف عليهم .
عندما توفي الإمبراطور كومود مسموماً في 1 كانون أول سنة192م ،تولّى مكانه برتينكس والي سوريا فلم يستطع إرضاء الجند فقتلَ في 28 آذار سنة193 م ثم استقرَّت المبايعة عــلى تولّي رجل غني جداً يُدعى ديديوس يوليان ونودي به إمبراطوراً ولما بلغ هذا الأمر
كتائب الجيش في مختلف الأصقاع ، فنادى كل جيش بقائده إمبراطوراً . وكان سبتيموس سيفيروس يقود جيش الدانوب ولكونه محبوباً من جنوده فنادوا به إمبراطوراً فأسرع بجنوده إلى روما ودخلها بموكب عظيم وتبوّأ الإمبراطورية وللحال أصدر المجلس العالي الروماني حكماً بقتل ديديوس يوليان كمجرم فقُبضَ عليه وقُتِلَ بعد حكمَ دام 26 يوماً . ثم قضى على خصميه نيجر وألبيوس وأصبح إمبراطوراً بلا منازع
لم يكن سيفيروس حمصي المَوْلِد لكنه حمصي العاطفة ، وكان لزوجته جوليا الأثر الكبير في الدولة فقاسمته المكانة والسلطان والنفوذ وكانت تدير معهداً في العلم والأدب والسياسة وتتكوَّن شخصياته من الرومان وأعيان السوريين واستعانت بنوجين كاتب التراجم وديوكاشيوس المؤرّخ وبفيلوسترات السفسطائي وببابنيانوس الفقيه في فن الحقوق الذي عيّنه مستشاره القانوني ورئيس مجلس المستشارين كما عيّن يوليوس باولوس Julius paulus (من مواليد حمص ) الفقيه والحجة في القوانين الرومانية واعتمد على أختها جوليا ميسا وإبنتيها جوليا سوميا وجوليا ماميا حيث كنّ على قدْر كبير من الثقافة والعلم والثروة المالية الكبيرة وأكَّد المؤرخون إنها لطَّفتْ كثيراً من أخلاق زوجها العسكرية القاسية وحملَت العديد من الألقاب ( أم القياصرة ، أم الجيوش ، أم الوطن ، أم الشيوخ ، و دومينا وهي تحريف عن الكلمة السورية مارتا وتعني السيدة بالغة الجلال ) ، كما نُقِشَت صورتها على النقود وأقيم لها تماثيل ومعابد عديدة .
كان حظ سوريا عموماً وحمص خصوصاً حسناً بعهد هذا الإمبراطور فأولى عناية كبيرة بالبلاد التي أقام فيها مدة طويلة لاسيما الفترة من سنة 182 ـ 184 م في منطقة حمص التي اقترن بها بجوليا دومنا . فعرِف ما تحتاجه البلاد من عناية فبذل جهده بتأمين الطرقات وتعويد الشعب على العمل المجدي والإنصراف عن الشغَب ، وصيانة الحصون التي بلغ عددها 42 حصناً والتي تمتد مابين دمشق وتدمر وأطلال بعلبك . وقسَّم سورية إلى قسمين جعل القسم الأول سورية الشمالية الممتدّة من أقصى الشمال إلى غاية السهول الممتدَّة على ضفَّتي العاصي حتى أنطاكيا ، والقسم الثاني سورية الفينيقية والسواحل البحرية وشرق لبنان ويضم هذا القسم بعلبك وحمص ودمشق وتدمر .
وفي آخر أيامه قصد أوروبا وحارب الكلدونيين القاطنين شمال بريطانيا لكنه توفي في مدينة يورك سنة 211م .
2 ـ الإمبراطور كاراكلاّ Caracalla
من 211 وحتى 217 م
تركَ سيفيروس المُلْكْ من بعده لولديه كاركلاّ وجيتا Jeta اللذين سبق أن أشركهما معه في الحكم وأعطاهما لقب ( قيصر ) وذلك تفادياً من تغلُّب أحدهما على الآخر بعد وفاته , فحكما البلاد معاً سنة 211 م حوالي سنة واحدة ، وإن الضغينة كانت في قلب كل واحد على الآخر، لكن والدتهما جوليا كانت تُصْلِح بينهما باستمرار فلم يطل الأمر على هذا النحو وأثاء عتاب بينهما وبحضور والدتهما هجم كاراكلاّ على أخيه جيتا وفتك به سنة 212 م .
ورأت والدته أن تقف إلى جانب إبنها كاراكلاّ وهو في ريعان الشباب ولم يتجاوز عمره 23 سنة ، الذي حملَ إسم كاراكلاّ لأنه كان يرتدي الكاركال وهو رداء سوري يُشبه العباءة . ولعبت والدته دور الوزير الأمين خلال العامين 214 ـ 215 م ،ومن أعماله إنه أنشأ الرواق والعرَصة أمام الهيكل في بعلبك وأصدر القانون الذي منح بموجبه الجنسية الرومانية لكل سكَّان الإمبراطورية ، فأدّى ذلك إلى إملاء الخزينة بالرسوم التي تقاضتها الإمبراطورية من الجميع الذين كانوا يؤدُّونها بطيبة خاطر لحصولهم على الجنسية الرومانية ، وكان يمدّ يد العون لكل من يلوذ به ، وبالرغم من حسناته فإن ضميره كان يوبِّخه على قتل أخيه جيتا . وقتل الفقيه بابنيانوس وهو في عمر 37 سنة ،وعيَّن أولبيانوس Ulpianus (وهو من مواليد بيروت أو صور وتلميذ بابيانوس )مستشاراً له ورئيساً على الحرس وكان كاراكلاّ كثير التجوال في الولايات التابعة لإمبراطوريته . وفيما كان يحاول إخضاع البرثيين في الشرق ، اغتاله رئيس الحرس مكرينوس في الرها شمال سوريا سنة 217 م . وأرسل رماده إلى أمّه التي استقرّت في أنطاكيا وحزنت عليه وامتنعت عن الطعام حتى توفّيت بنفس العام ثم أعيد رفاتها إلى المقبرة الإمبراطورية (أوغست ) في روما باحتفال مهيب برعاية وتدخُّل أختها جوليا ميسا وخلّدت روما إمبراطورها كاراكلاّ بإنشاء الحمّامات الكبيرة على إسمه التي مازالت آثارها قائمة وتتّسع لـ 1600 زائراً .
3 ـالإمبرطور إيلاغابال Elagabalus
من 218 وحتى 222 م
بعد إغتيال كاراكلاّ أبعدَ مكرينوس كل من جوليا ميسا وجوليا سوميا زوجة كاراكلاّ وولدها أفيتوس باسيان وجوليا ماميا وإبنها الكسندروس سيفيروس من روما فعــدنَ إلى حمــص
وجاورنَ هيكل الشمس وقدّمنَ أنفسهن ومالهن للمعبد واستلمت جوليا ميسا مفاتيح الهيكل وأقامت أفيتوس كاهنا للهيكل وارثاً لجدِّه باسيانوس وله من العمر 14 سنة وكان جميل الصورة معتدل القامة وأظهر من التقوى والورع ما جعله محبوباً من الجميع لاسيّما الجند الذين حقدوا على مكرينوس لقتله كاراكلاّ وتسببه في وفاة والدته جوليا دومنا وإبعاد كل مايرتبط بهذه العائلة من روما .
4 ـألكسندروس سيفيروس Alexandrus severus
من 222 وحتى 235 م
بعد مقتل إيلاغابال نودي بإبن خالته ألكسندروس سيفيروس الذي وُلِدَ سنة 205 م وكانت والدته جوليا ماميا من الشهيرات بعلوّ المدارك والثقافة الأدبية . وأحبّه الجند كثيراً وبدأ بإصلاح ما أورثه أسلافه من الخلل مُستعيناً برأي جدّته جوليا ميسا ووالدته جوليا ماميا وعيّن يوليوس باولوس الفقيه بالحقوق رئيساً لحرسه الملكي بطلب من والدته وأقام ديواناً للمشورة مكوّناً من 16 عضواً اختارهم من خيرة الرجال .وأقام مجلساً بلدياً لروما يتكوًن من 14 عضواً ، كما رفع شأن المرأة إلى المستوى اللاّئق بها فأقام ندوة للنساء ترأستها جدّته ثم أمّه وأعطاهن سلطة واسعة في تهذيب كل امرأة تتجاوز حدود اللياقة ، وأكثرَ الضرائب على الصاغة ليقلّل أسباب الترف وحارب المُرابين وأحبّ جنده كثيراً . وكان مقتصداً في معيشته ولبسه ، وكتب على باب قصره :
( لاتفْعل بالغير ما لاتريد أن يفعله الغيْر بك )
وفي سنة 231 م دفع الغرور ملك الفُرْس لمحاربة روما فجهّز الإمبراطور حملة لمحاربته ورافقته أمّه في هذه الحملة ، ويظهر من خطبته التي ألقاها في 19 إيلول سنة 233 م إنه انتصرَ على الفرس واستردَ كل البلاد الواقعة ما بين النهرين وغنِمَ غنائم وافرة . ثم بلغه أن الجرمانيين ثاروا واتّجهوا إلى فرنسا فسار بجيشه إليهم تصحبه أمّه أيضاً وخيَّم على الرّين وسعى إلى استرضائهم بالمال لتجنّب نكبات الحرب ، لكن أحد قوّاد الجيش ويُدعى مكسيمنوس Maximenus رفض هذا التصرّف وقال إن الأموال من حق الجنود وانصاع الحنود إليه ونادوا به إمبراطوراً وساروا إلى خيمة الكسندروس وقتلوه وأمّه في 19 آذار سنة 235 م .
كانت فترة الأباطرة الحمصيين التي دامت نحو 42 سنة مع نسائهم حيث كن ّاليد القوية في مساندتهم بإدارة الحكم لما يتمتّعن به من ثقافة وأدب وحكمة لاسيما جوليا دومنا ذات أثر كبير لحمص وتخليداً لذكراها فقد أصدر مجلس مدينة حمص قراراً بتسمية إحدى الشوارع الرئيسية في حي حمص الجديدة ( الوعر ) بإسمها . وفي عهد الأباطرة بلغ العمران في المنطقة درجة عالية حيث بُنِيَ في هذه الحقبة أكثر من مئة مدينة في مسافة لاتزيد عن 180 كم على ضفاف العاصي وعرف سكان هذه المدن كيف يستغلّون مياه نهرهم العظيم( أورانتيس) العاصي . ولما ارتقى العمل الزراعي بحمص وازداد إنتاج الحاصلات الزراعية اقتضى الأمر إيجاد أسواق لها خارج المنطقة فأقام تجّارها لأعمالهم مراكز في معظم مدن أوروبا لتصريف إنتاجهم ومما ساعدهم على ذلك إقامة الطرق حيث وجد الأثريون أثراً واضحاً للطريق الرومانية الممتدّة من ميماس حمص حتى مصياف وبعدها يتّجه نحو تل سلحب مجتازاً جسر العشارنة إلى قلعة المضيق في سهل الغاب ويُرَجِّح بعضهم إنه يصل إلى أنطاكيا فالقسطنطينية ( اسطنبول حالياً ) كما بنوا عند كل 8 كم من الطريق محطة للبريد فيها 40 فارساً لنقله ليلاً ونهاراً فكان البريد يقطع في اليوم نحو150 كم .
وأخيراً أفلا يحقّ لحمص أن تفخر بأسرة الأباطرة السيفيريين .
الموضوع منقول وللمزيد من المعلومات يجب اتباع هذا الرابط مرفق بالصور للاباطرة
http://www.shamyat.ru/modules.php?na...ticle&sid=1384[/size]